احذروا الظلم الشيخ خالد بن عبدالله المصلح
الخطبة الأولى
أما بعد. . .
فاتقوا الله أيها المؤمنون فإنه لا فلاح لكم في الدنيا ولا نجاة في الآخرة إلا بتقوى الله تعالى. أيها المؤمنون إن البغي والظلم ذنب عظيم وإثم مرتعه وخيم وهو سبب كل شر وفساد وكل بلاء وعقاب فهو منبع الرذائل والموبقات ومصدر الشرور و السيئات وعنه تصدر سلاسل العيوب والآفات متى فشا في أمة آذن الله بأفولها ومتى شاع في بلدة فقد انعقدت أسباب زوالها وتحول لباسها، فبه تفسد الديار وتخرب الأوطان وتدمر الأمصار به ينزل غضب الواحد الجبار القهار قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا﴾ وقال: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ وقال تعالى: ﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً﴾ وقال تعالى: ﴿فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ﴾
أيها المؤمنون إن الله تعالى نفى عن نفسه الظلم فقال عز وجل: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيد﴾ وقال: ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾ وقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة﴾ ﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ﴾ وقد حرمه تعالى على نفسه ففي الحديث الإلهي عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله r فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: ((ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)) رواه مسلم فأعلم الله تعالى عباده في هذا الحديث العظيم أنه حرم الظلم على نفسه قبل أن يجعله محرماً بين عباده. وقد أعلن النبي r حرمة الظلم في أعظم مجمع وموقف فقال في خطبته يوم عرفة: ((ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا)) وفي الصحيحين أن النبي r قال: ((اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة)) وقال r فيما يرويه مسلم وغيره: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره)). وقد تهدد الله أرباب الظلم وأهله فقال جل ذكره: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾ فالله تعالى للظالمين بالمرصاد ففي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول r: ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ r: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾)). وقد لعن الله الظالمين فقال: ﴿ألا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ وأخبر سبحانه أنه يبغضهم فقال: ﴿وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾. والظلم يا عباد الله أعظم أسباب ارتفاع الأمن وزوال الاهتداء عن الأفراد والمجتمعات قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ فبقدر ما يكون مع الفرد و المجتمع من الظلم بقدر ما يرتفع عنه الأمن والاهتداء فالجزاء من جنس العمل ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾.
أيها المؤمنون إن الظلم الذي وردت به النصوص التحريمية وبيان سوء عاقبته والتحذير منه درجات ومراتب أولها الظلم الكبير الخطير العظيم الذي لا يغفر الله الغفور الرحيم الكريم لصاحبه إلا بالإقلاع عنه وتوبته منه ألا وهو الإشراك بالله تعالى. بصرف العبادة أو بعض أنواعها لغير الله كدعاء غيره والسجود لغيره والذبح والنذر لغيره ونبذ شرعه والتحاكم إلى سواه قال الله تعالى حاكياً عن لقمان وصيته لابنه: ﴿يابني لا تُشْرِكْ باللَّهِ إِنَّ الشرك لظُلْم عظيم﴾ فهذا الظلم لا يغفره الله إلا بالتوبة منه قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرِكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء﴾ فأخلصوا أيها المؤمنون عبادتكم لله تعالى فإنه من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة وحاربوا الشرك وأهله بالدعوة إلى التوحيد.
وأما ثاني مراتب الظلم فذاك الظلم الذي لا يتركه الله تعالى وهو ظلم العبد غيره من الخلق فهذا لابد فيه من أخذ الحق للمظلوم من الظالم كما قال الله سبحانه في الحديث الإلهي:
((وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين)). وقد أجاد من قال:
لا تظلمن إذا ماكنت مقتدراً فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
تنام عينـاك والمظلوم منـتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم
أيها المؤمنون اتقوا الظلم فإن نبيكم الصادق المصدوق قد أخبر أن الدنيا تملأ في آخر الزمان ظلماً وجوراً وها نحن نشهد صدق ما أخبر به r فإن الظلم قد فشا وشاع بين الناس في الدماء والأموال والأبضاع والأعراض حتى صدق في سلوك كثير من أبناء هذا الزمان ما قاله الشاعر الجاهلي:
الظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفةٍ فلعلةٍ لا يظلم
ولا تظنن أيها الأخ أن هذه مبالغة أو مزايدة بل ذلك هو واقع كثير من الناس فكم هم أصحاب الأعمال الذين ظلموا عمالهم بتحميلهم ما لا يطيقون أو بتأخير رواتبهم ومستحقاتهم أو جحد حقوقهم أو فرض الإتاوات عليهم. وكم هم أرباب الأسر والبيوت الذين جنوا على أهليهم وظلموا أولادهم وزوجاتهم. وكم هم التجار الذين دلسوا بضائعهم وغشوا عملاءهم وكم هم الولاة الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم وحكموا القوانين فلم يعدلوا في الرعية ولم يقسموا بالسوية ولم يسيروا بالسرية. وكم هم الذين أطلقوا لأنفسهم العنان في أعراض الناس ودمائهم فتمضمضوا بأعراض المؤمنين وتفكهوا بدمائهم إنهم كثير كثير كثير قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾.
فللّه ما أكثر المفلسين الذين يعملون لغيرهم ويتحملون فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتدرون من المفلس ؟ قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع .
فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار))
فيالها من تجارة بائرة وصفقة خاسرة أن تأتي يوم القيامة وأنت أحوجُ ما تكون إلى حسنة تثقل بها ميزانك فإذا بخصمائك قد أحاطوا بك فهذا آخذ بيدك وهذا قابض على ناصيتك وهذا متعلق بتلابيبك هذا يقول: ظلمتني وهذا يقول: شتمتني وهذا يقول: اغتبتني أو استهزأت بي وهذا يقول: جاورتني فأسأت جواري وهذا يقول: غششتني وهذا يقول: أخذت حقي
أما والله إن الظلم شؤم وما زال المسيء هو المظلوم
ستعلم يا ظلوم إذا التقينا غداً عند المليك من الملوم
فياعباد الله تداركوا الأمر قبل فوات الأوان فما هي والله إلا ساعة ثم تبعثر القبور ويحصّل ما في الصدور وعند الله تجتمع الخصوم. فيقتص للمظلوم من الظالم فتحللوا أيها الإخوان من المظالم قبل ألا يكون درهم ولا دينار
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شئ فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)).
أيها المؤمنون أما ثالث مراتب الظلم فهو ظلم العبد نفسه بالمعاصي والسيئات فكل ذنب وخطيئة تقارفها يا عبد الله فإن ذلك ظلم منك لنفسك وبغي عليها قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ وما أكثر ما قال الله عند ذكر العصاة والمذنبين والظالمين: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون﴾ فكل مذنب وعاصٍ فإنما يجني على نفسه ويعرضها لعذاب الله الأليم وعقابه الشديد كما قال النبي r فيما أخرجه ابن ماجه وغيره بسند لابأس به عن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه قال: سمعت رسول الله e يقول في حجة الوداع: ((ألا لا يجني جان إلا على نفسه)).
فتخففوا عباد الله من ظلم أنفسكم بامتثال ما أمركم الله به وترك مانهاكم عنه والتوبة مما فرط من الذنوب فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
الخطبة الثانية
أما بعد ...
فيا أيها المؤمنون اعلموا أن الله سبحانه نهى عن الظلم بجميع صوره وأمر بمجاهدة الظالمين ورفع الظلم عن المظلومين وقد أرسل الله سبحانه رسله وأنزل كتبه لإقامة القسط ورفع الظلم قال الله تعالى: ﴿َقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾.
فإذا تركنا الظالم ولم نأخذ على يده فقد خالفنا ما جاءت به الرسل ونحن مهددون بعقوبة عامة ومحنة عاجلة فعن أبي بكر الصديق أنه قال: أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ وإني سمعت رسول الله e يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه)) رواه أبو داود والترمذي بإسناد جيد. فرفع الظلم والإنكار على الظالم واجب على كل أحد حسب قدرته وطاقته ووسعه قال النبي r: ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. قالوا: يا رسول الله هذا ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً؟ قال: تأخذ فوق يديه)).
أيها المؤمنون إن أولى المظلومين بالنصر والتأييد والإعانة هم أولئك الذين ظلموا في دينهم فحُورِبوا وقُوتِلوا وهُجِّروا وضُرِبوا وسُجِنوا وأُوذوا من أجل أنهم رضوا بالله رباًَ وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ فهؤلاء وأضرابهم هم أولى الناس بالنصر والتأييد لاسيما في هذا العصر المفتون الذين انتعش فيه أعداء الله من اليهود والنصارى والوثنيين والملحدين والمبتدعين والمنافقين فرموا أهل الإسلام عن قوس واحدة كما أخبر النبي r في حديث ثوبان: ((يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)) فليس ما يجري على الإسلام وأهله في كثير من بلدان العالم إلا تصديقاً لما أخبر به الصادق المصدق
أحل الكفر بالإسلام ظلماً يطول به على الدين النحيب
فقوموا بما أوجب الله عليكم من نصرة دينكم وإخوانكم وذلك من خلال عدة أمور:
الأول: التوبة النصوح من جميع الذنوب قال الله تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ فإن ما أصاب أمتنا هو بما كسبت أيدينا ويعفو عن كثير قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ فالتوبة إلى الله تعالى من أعظم أسباب رفع ظلم الظالمين وتسلط الطاغين قال ابن القيم رحمه الله: ((فليس للعبد إذا بغي عليه أو أوذي أو تسلط عليه خصومه شيء أنفع من التوبة النصوح)).
الأمر الثاني: مجاهدة أعداء الله تعالى ومراغمتهم على اختلاف أنواعهم كل حسب ما يناسبه فالكفار والمشركون جهادهم بالسيف والسنان وأما المنافقون والمشككون والمرتابون فبالحجة والبرهان والعلم والبيان وأما الظالمون والعصاة فبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيان الدين وتبليغ ما في الكتاب والسنة من الأمر والنهي و الخير.
الأمر الثالث: مدُ يد العون والمساعدة لكل من أوذي في سبيل الله قريباً كان أو بعيداً وذلك من خلال تقديم كل ما يمكن تقديمه من دعم مادي أو معنوي لا سيما أيها الإخوة ونحن في هذه البلاد لا زال كثير منا ولله الحمد يعيش في سعة من الرزق ورغد من العيش فالواجب علينا أكبر من الواجب على غيرنا فمدوا بارك الله فيكم أيديكم بسخاء لإخوانكم المسلمين في كل مكان واعلموا أن الصدقة تطفئ غضب الرحمن وتقي مصارع السوء فإياكم والبخل فإنه من يبخل فإنما يبخل عن نفسه.
فإن شحت نفسك أو عدمت ما تقدمه لإخوانك فلن تعدم هداك الله لساناً بالدعاء والتضرع لاهجاً ولله سائلاً أن يعز أهل دينه وأن يذل أعداءه فادعوا أيها المؤمنون لإخوانكم المسلمين المظلومين في دينهم فإن دعوة المظلوم والدعوة له ليس بينها وبين الله حجاب عن ابن عباس t أن النبي r بعث معاذاً إلى اليمن فقال: (( اتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب)).