إحباط العمل و سبل الوقاية منه لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ، ونستعين به ، ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مُضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله ، سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذن بخبر ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريته ومن والاه ، ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، و اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين ، أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أيها الأخوة الكرام ، ورد في القرآن الكريم كلمة ﴿ فأحبط أعمالهم﴾ في ست عشرة آية ، وإحباط العمل إن كان فيما يبدو صالحاً إلغاء ثماره كلياً ، وإن كان سيئاً الوعيد الذي ينتظر صاحبه ، على كل من أخطر ما يصيب الإنسان في الدنيا أن يحبط الله عمله ، وهذا المنطلق هو منطلق سيدنا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال :
(( كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي ))
[ متفق عليه ]
لذلك في بضعة خطب أتحدث عن الإحباط ، الإحباط أيها الأخوة ، أولاً الأعمال الدنيوية المباحة التي لا معصية فيها ، لكن هذه الأعمال ليس لها أثر مستقبلي ، ينشغل بوقته كله في دنياه المشروعة ، أنا أخاطب المؤمنين الطرف الآخر في هذا الموضوع لا يعنيني إطلاقاً ، أنا أخاطب المؤمن الذي أمضى كل وقته في دنياه يصلي ويصوم ويحج ويزكي ولكن شغل في دنياه هذا الوقت المديد في أعمال ليس لها أثر في المستقبل ، ما المقياس ؟ الإنسان حينما يأتيه ملك الموت العمل الذي يدخل معه في القبر هو العمل المغني ، هو العمل الذي فيه الفلاح ، هو العمل الذي فيه النجاح ، هو العمل الذي فيه التوفيق ، عمل صالح يدخل معك في القبر أما العمل الذي يبقى في البيت ، زينت البيت ، اعتنيت بالبيت ، أما العمل الذي لا يدخل معك في القبر هذا من الدنيا ، لذلك يجب أن تعطي الدنيا حقها دون أن تجعلها كل شيء .
أول فكرة أن الإنسان إذا غرق في شؤون دنياه المباحة وجاء عمله الصالح ضعيفاً قليلاً يكون قد ضيّع شيئاً كثيراً ، لذلك الإنسان حينما يأتيه ملك الموت لا يندم إلا على ساعة مرت لم يذكر الله فيها ، لا يندم إلا على عمل صالح لم يفعله ، خدمة لم يؤدها ، عطاء لم يعطه لإنسان محتاج .
أيها الأخوة الكرام ، أول شيء من المباحات التي تستغرق وقت الإنسان كله ، إن لله عملاً في الليل لا يقبله في النهار ، وإن لله عملاً في النهار لا يقبله بالليل .
أيها الأخوة ، قد نفهم هذه الآية في ضوء هذا التمهيد :
﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا ﴾ .
( سورة الفرقان ) .
ماذا ينتفع الإنسان لو كانت دنياه رائعة وعمله الصالح قليل ؟ واتفقنا في وقت مضى أن الغنى والفقر بعد العرض على الله عز وجل .
1 ـ نية الإنسان لم تكن خالصة لله :
أيها الأخوة ، الآن الأعمال الأخروية هل تحبط ؟ استمعوا إلى قول المعصوم عليه الصلاة والسلام :
« إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد في سبيل الله فأتي به فعرفه نعمه فعرفهـا ، قال : فما عملت فيها ؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت ، قال : كذبت ، ولكنك قاتلت ، لأن يقال جريء ، فقد قيل ، ثم أمر به ، فسحب على وجهه ، حتى ألقي في النار ))
[رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة]
شيء مخيف إنسان دخل معركة ولم تكن نيته خالصة ولم يكن يهدف إلى إعلاء كلمة الله ، نعم .
((....ورجل تعلم العلم وعلمه ، وقرأ القرآن ، فأتي به ، فعرفه نعمه ، فعرفها ، قال : فما عملت فيها ؟ قال : تعلمت العلم وعلمته ، وقرأت القرآن ، قال : كذبت ، ولكنك تعلمت ليقال هو عالم ، وقرأت ليقال هو قارئ ، فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه ، حتى ألقي به في النار ))
[رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة]
2 ـ الغرق في المباحات :
ما الذي يحبط العمل ؟ أن تغرق في المباحات ، المباحات أنا أخاطب المؤمنين أو أن يكون العمل في ظاهره رائعاً ولكن النوايا ليست على ما ينبغي وحينما فسر بعض العلماء الكبار قوله تعالى :
﴿ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ ﴾ .
( سورة النمل الآية : 19 ) .
قال العمل الصالح الذي يقبله الله عز وجل ما كان خالصاً وصواباً ، خالصاً ما ابتغي به وجه الله ، وصواباً ما وافق السنة .
3 ـ خلط عمل سيئ و آخر صالح :
الآن هناك شيء ثالث يحبط الأعمال الصالحة إذا كانت كفتها ليست راجحة ، يعني خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً ، بل عن الأعمال السيئة كانت أكثر من الأعمال الصالحة عندئذ لا يستطيع أن يستثمر عمله الصالح في الإقبال على الله ، الأعمال السيئة كانت حجاباً بينه وبين الله .
أيها الأخوة ، إحباط العمل الصالح زوال أثره في الدنيا والآخرة ، زوال أثره في الدنيا ، العمل الصالح من نتائجه اليقينية الراحة النفسية ، السعادة ، السكينة ، الرضا ، التوفيق ، النصر ، التأييد ، الحفظ ، فإذا كان إنسان له أعمال صالحة لكن يقابلها أعمال سيئة كثيرة هذا نموذج موجود في المسلمين ، يعني في أمور دنياه وكسب ماله وإنفاق ماله يفعل ما يريد وفق مبادئ ليست إسلامية ونواظم ليست إسلامية ، أما في شأن عباداته يصلي ويصوم وقد يحج كل عام ، فهذه الأعمال التي رافقت الأعمال الصالحة منعت أن تقطف ثمارها في الدنيا لا في سكينة ، ولا في راحة ، ولا في شعور بالفوز ، ولا في طمأنينة ، ولا في شعور بالأمن ، لأن هناك عمل آخر سيئ رافقها .
أيها الأخوة ، وهذا معنى قوله تعالى :
﴿ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (
﴾
(سورة القارعة)
ميزان الأعمال السيئة كان راجحاً والأعمال الصالحة كان خفيفاً :
﴿ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) ﴾
(سورة القارعة)
أيها الأخوة ، من آثار إحباط العمل في الآخرة ألا يكون عمله سبباً لدخوله الجنة بل ألا يكون عمله سبباً لتسريع دخوله الجنة ، بل ألا يكون عمله سبباً لبلوغ أعلى مرتبات الجنة ، في عمل صالح الدليل أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا ، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا ، قَالَ ثَوْبَانُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، صِفْهُمْ لَنَا ، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ ، قَالَ : أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا )) .
[ ابن ماجه عَنْ ثَوْبَانَ]
إذاً الإنسان حينما يجمع عملاً صالحاً وآخر سيئاً ربما لا يستطيع أن يقطف ثمار عمله الصالح في الدنيا .
أيها الأخوة الكرام ، لا زلنا مع سيدنا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه حينما كان يسأل النبي عن الشر بينما معظم الصحابة يسألونه عن الخير ، هذا منهج آخر ، هناك أعمال شريرة وسيئة تحبط العمل ، تصور تجارة بذلت فيها جهداً جباراً والنتيجة لا ربح بل خسارة شيء مؤلم جداً ، فالذي يحضر دروس العلم ويتابع العلم ويؤدي الصلوات ويحج بيت الله الحرام ويعتمر ويزكي عن ماله ليحذر أن يكون في عمله عمل يلغي نتائج أعماله الصالحة في الدنيا ، العمل الصالح معه سكينة ، معه رضا ، معه سعادة ، معه شعور بالفوز ، معه شعور بالقرب ، معه شعور بالراحة النفسية ، معه شعور بالأمن ، فإذا فقد المؤمن مع عمله الصالح هذه المشاعر معنى ذلك أن في أعماله أعمالاً ألغت نتائج أعماله الصالحة في الدنيا والآخرة .
1 ـ الخوف من الله :
أيها الأخوة ، ما هي السبل التي يتقي بها المؤمن إحباط عمله ؟ أولاً الخوف من الله ، ما اطمأن إلا منافق وما خاف إلا مؤمن ، كان بعض الصحابة كما قال أحد التابعين : التقيت بأربعين صحابياً ما بينهم واحداً إلا ويظن نفسه منافقاً ، حتى أن عمر بن الخطاب عملاق الإسلام التقى بسيدنا حذيفة وعنده أسماء المنافقين قال له يا حذيفة بربك اسمي مع المنافقين ؟ هذا الذي يطمئن يقول لك أنا مؤمن أنا لا أبالي ، أنا إيماني كبير وهو على معاصٍ ، وهو على تقصيرات ، وهو على مخالفات ، فهذه مشكلة كبيرة في الإنسان حينما يأمن نتائج عمله السيئ ولا يقلق من أجل هذه الأعمال السيئة .
أيها الأخوة الكرام ، لا بد من الخوف من الله ورد في بعض الآثار القدسية :
(( يا رب ، أي عبادك أحب إليك حتى أحبه بحبك ؟ قال : أحب عبادي إلي تقي القلب ، نقي اليدين ، لا يمشي إلى أحد بسوء ، أحبني ، وأحب من أحبني ، وحببني إلى خلقك ، قال : يا رب إنك تعلم إني أحبك ، وأحب من يحبك ، فكيف أحببك إلى خلقك ؟ قال : ذكرهم بآلائي ، ونعمائي ، وبلائي )) .
[ ورد في الأثر ]
لا بد من الخوف من الله ، يجب أن ينمو الخوف من الله ، هذا الخوف المقدس ، هذا الخوف الصحي ، إن أمنته في الدنيا أخافك يوم القيامة وإن خفت منه في الدنيا أمنك يوم القيامة ، يجب أن تشعر أيها المؤمن بأنك قد تزل قدمك ، لذلك احرص أن تكون مع الله ، لذلك الإمام الحسن يقول : ما خاف الله إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق .
ويقول بعض العلماء ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون كذاباً .
راجع حساباتك ، تعاهد قلبك ، إياك أن تغتر بنفسك ، لا توفر نفسك اتهمها ، كن لها متهماً ولا تكن لها محابياً ، ازدياد الخوف من الله قد يقي الإنسان بعض الزلل الذي يحبط العمل .
سيدنا الصديق يقول : وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن . سيدنا الصديق الذي قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام : وما طلعت شمس على رجل بعد نبي أفضل من أبي بكر .
وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن ، سيدنا عمر حينما قرأ سورة الطور ووصل إلى قوله تعالى : إن عذاب ربك لواقع ، بكى واشتد بكاءه ونحيبه ، وقال ليت أم عمر لم تلد عمر ليتها كانت عقيمة .
2 ـ صيانة العمل عن النية السيئة :
أيها الأخوة ، سبيل آخر من سبل ازدياد الخوف من الله صيانة العمل عن النية السيئة ، يقول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح :
(( إنما الأعمال بالنيات )) .
[ متفق عليه عن عمر بن الخطاب ].
استبطن نواياك اسأل نفسك ماذا ترجو من هذا اللقاء ؟ ماذا ترجو من هذه الكلمة ؟ ماذا ترجو من هذه السفرة ؟ ماذا ترجو من هذه التجارة ؟ ماذا ترجو من هذه الدراسة ؟ لأن الله عز وجل قال :
﴿ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا ﴾ .
( سورة الزمر الآية : 2 ) .
بجوارحك ، مخلصاً بقلبك له الدين ، والإخلاص لله عز وجل ينفع معه كثير العمل وقليله ، بينما عدم الإخلاص لا ينفع معه لا كثير العمل ولا قليله :
﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
( سورة الأنعام )
أيها الأخوة الكرام ، نحن في دار ابتلاء ، نحن في دار فيها مزلة قدم ، نحن في دار الفتن يقظة والشهوات ترقص أمام الناس ، نحن في دار القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر وقد قال عليه الصلاة والسلام :
(( لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ ؟ قَالَ : أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ )) .
[ الترمذي ، أبو داود ، ابن ماجه عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيِّ]
فلما سئل لماذا منا ؟ قال : لأنكم تجدون على الخير معواناً ، ولا يجدون .
بالمناسبة أيها الأخوة النبي عليه الصلاة والسلام كأنه معنا قال :
(( يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا )) .
[ أبو داود عَنْ ثَوْبَانَ]
تصور شباب جائعون جوعاً شديداً ودخلوا إلى غرفة فيها قصعة طعام ، كيف يقبلون عليها ويتنافسون على الأكل منها .
(( يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا ، لكن الصحابة الكرام توهموا أننا قلة في آخر الزمان ، فَقَالَ قَائِلٌ : وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ ؟ المفاجأة الصاعقة قَالَ : بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ ، مليار وخمسمئة مليون ، ربع سكان الأرض ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ )) .
[ أبو داود عَنْ ثَوْبَانَ]
تصور سيلاً عرمرماً كما يوصف مخيفاً ينطلق بقوة تدميرية مخيفة وعلى سطح مائه بعض القش ، هذا القش هل يغير من مساره ؟ هل يستطيع هذا القش الذي طفا على سطح السيل أن يوقف السيل .
(( وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ)) .
[ أبو داود عَنْ ثَوْبَانَ]
ما في هيبة طبعاً ، المسلمون حينما لا يطبقون منهج نبيهم قال تعالى :
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ (33) ﴾
( سورة الأنفال)
حينما لا يأتمرون بما أمر الله ، ولا ينتهون عما نهى عنه الله ، ولا يقيمون لمنهج الله وزناً ، ولا يعبؤون أفي معصية أم في طاعة ؟ أكان دخلهم مشروعاً أم غير مشروع ؟ أكان هذا اللقاء يرضي الله أو لا يرضي الله ؟ حينما هان أمر الله عليهم هانوا على الله .
لا تعبؤوا بمساجد تبنى ، ولا بصلوات تؤدى ، ولا بأربعة ملايين في الحج وفي العمرة اعبؤوا باستقامة المسلمين ، الاستقامة هي جوهر الدين ، وكيف أن التجارة تضغط كلها في كلمة واحدة هي الربح ، فإن لم تربح فلست تاجراً ، كذلك كل نشاطات الدين تضغط بكلمة واحدة هي الاستقامة فإن لم تستقم لن تقطف من ثمار الدين شيئاً ، تأتي إلى المسجد وتصلي وتحج وتعتمر ولك كلمات رائعة تُسبح الله ، لكن ما دام في السلوك في اغتصاب بيت ، في اغتصاب شركة ، في كذب في البيع والشراء ، في غش للمسلمين ، العمل عندئذ يحبط أقول لكم الحقيقة مرة ، لو أن المسلمين مطبقون لمنهج الله عز وجل لما كانوا في حال كهذا الحال ، هذا الإخلاص تؤكده الآية الكريمة :
﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
( سورة الأنعام )
أيها الأخوة الكرام :
(( دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا ، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ )) .
[ مُتَّفَقٌ عَلَيْه عن عبد الله بن عمر]
أي أحياناً تنفصل عند المسلم المقصر وحدة الدين ، يؤدي العبادات ولا ينتبه للمعاملات فامرأة دخلت النار في هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض .
(( إن المرأة تذكر أنها تكثر من صلاتها ، وصيامها ، وصدقتها ، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها ، قال : هي في النار )) .
[ أحمد عن أبي هريرة ]
وحينما سأل النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه :
(( أَتَدْرُونَ مَنْ المُفْلِسُ ؟ قالُوا : المُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ الله من لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ ، قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : المُفْلِسُ مِنْ أَمّتِي مَنْ يَأتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةِ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ ، وَيَأْتِي قَد شَتَمَ هَذَا ، وَقَذَفَ هَذَا ، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا ، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا ، وَضَرَبَ هَذَا ، فيقعُدُ فَيَقْتَصّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْتَصّ عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَايَا أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ ، فَطُرِحَ عَلَيْهِ ، ثُمّ طُرِحَ في النّارِ )) .
[ مسلم عن أبي هريرة ]
أيها الأخوة ، لا بد من أن يكون المرء خائفاً من الله ، مدققاً في عباداته التعاملية وفي عباداته الشعائرية ، وقد فرغت من القول لأنني عدته عشرات المرات أن الصلاة والصيام والحج والزكاة هذه العبادات الشعائرية لا تصح ولا تقبل إلا إذا صحت العبادات التعاملية .
أيها الأخوة ، هذه حقيقة مرة أضعها بين أيديكم ، قد يقول احد الأخوة الكرام ما سبب اختيار هذا الموضوع ؟ هذا الموضوع فيه مفارقة ، المساجد ممتلئة ، الإقبال على الحج والعمرة منقطع النظير ، لكن حال المسلمين لا يرضي ، لا يوجد نصر ، لا يوجد قوة ، في ضعف ، للطرف الآخر له علينا ألف سبيل وسبيل :
﴿ وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ﴾ .
( سورة النور الآية : 55 ) .
هل نحن مستخلفون ؟ لا والله .
﴿ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ ﴾ .
( سورة النور الآية : 55 ) .
هل نحن ممكنون ؟ لا والله .
﴿ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ﴾ .
( سورة النور الآية : 55 ) .
هل نحن آمنون ؟ لا والله ، خمسة بلاد إسلامية محتلة وتنهب ثرواتها ويقتل أبناءها في مشكلة كبيرة هذا دين ، دين الله عز وجل إذا اصطلحنا مع الله لا بد من أن تحقق وعود الله عز وجل ، لأن زوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين ، فهناك مفارقة حادة ، سبب اختيار هذا الموضوع هناك مفارقة حادة بين حياة المسلمين (واقع المسلمين الذين لا يحسدون عليه ) وبين وعود رب العالمين ، أين نحن من قوله تعالى :
﴿ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ .
( سورة الصافات ) .
أين نحن من قوله تعالى :
﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ .
( سورة غافر الآية : 51 ) .
﴿ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ﴾ .
( سورة النساء ) .
هذه وعود رب العالمين .
أيها الأخوة ، يجب أن نبحث عن الخلل ، الخلل عندنا محبطات للعمل ، إحباط العمل أن تلغى آثاره في الدنيا والآخرة ، وكأن العمل لم يكن ، وأوضح مثل أنت حينما تشتري صفقة وتجهد في اختيارها ، وفي تحويل ثمنها ، وفي طرحها في الأسواق ، وفي بيعها ، وفي جمع ثمنها، ثم تفاجأ أنك لست رابحاً بل إنك خاسر خسارة كبيرة ، الخسارة مؤلمة جداً وإحباط العمل مؤلم جداً .
أيها الأخوة الكرام ، أنا لا أعمم فالتعميم من العمى ، أنا أذكر أن هناك ظاهرة هي إحباط العمل ، عمل سيء رافق عملاً صالحاً ، أو نية ليست كما ينبغي رافقت عملاً صالحاً ، أو عمل سيئ يستحق صاحبه العقاب .
أيها الأخوة الكرام ، لا شك أن الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره ، ينبغي ألا نحابي أنفسنا ، ينبغي ألا نجاملها ، ينبغي ألا نطمئن اطمئناناً ساذجاً ، ينبغي أن نقلق قلقاً مقدساً ، يجب أن نفحص أعمالنا فلعل الله عز وجل يغير حالنا بحال آخر .
أقول قولي هذا ، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه يغفر لكم ، فيا فوز المستغفرين ، أستغفر الله .
* * *
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى صحابته الغر الميامين و على آل بيته الطيبين الطاهرين .
أيها الأخوة الكرام ، الحديث الجامع المانع الرائع الموجز :
(( لا يرجو عبد إلا ربه ، ولا يخافن إلا ذنبه )) .
[ مسند الفردوس عن علي بن أبي طالب ] .
يعني أية قضية إن لم تكن كما تتمنى راجع حساباتك ، الله عز وجل يقول :
﴿ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ﴾
( سورة الشورى )
الله عز وجل يؤكد أن للمصائب حكماً في أن نعود من خلالها إلى الله :
﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) ﴾
( سورة السجدة) .
الله عز وجل يقول :
﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ .
( سورة محمد الآية : 19 ) .
لا تقبل عقيدة المسلم تقليداً ، لا معطي ولا مانع ، ولا رافع ولا خافض ، ولا معز ولا مذل ، ولا ناصر ولا موفق إلا الله ، الأمر بيد الله لكن يقول الله عز وجل بعدها إن لم تكن الأمور كما تتمنى :
﴿ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ ﴾ .
( سورة محمد الآية : 19 ) .
(( يَا عِبَادِي ، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ ، فَسَأَلُونِي ، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ ، يَا عِبَادِي ، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا ، الآن دققوا ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ )) .
[ مسلم عن أبي ذر]
كلام واضح كالشمس جلي ، قطعي الدلالة ، اتهم نفسك ، إن لم تكن الأمور كما تتمنى اتهم نفسك :
﴿ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ﴾
( سورة الشورى )
بل في بعض الآثار :
(( ما من عثرة ، ولا اختلاج عرق ، ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم ، وما يغفر الله أكثر )) .
[ أخرجه ابن عساكر عن البراء ] .
(( لا يرجو عبد إلا ربه ، ولا يخافن إلا ذنبه )) .
[ مسند الفردوس عن علي بن أبي طالب ] .
فسر الأمور تفسيراً توحيدياً ، تفسيراً علوياً لا تفسيراً شركياً أرضياً ، الله عز وجل يقول :
﴿ وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴾ .
( سورة النحل )
الأمور واضحة ، إله عظيم بيده كل شيء :
﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ ﴾ .
( سورة الزخرف )
﴿ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ .
( سورة الزمر )
﴿ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾
( سورة الأعراف الآية : 54 )
﴿ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) ﴾
( سورة الكهف)
هو الناصر ، هو المعز ، هو المعطي ، هو الحافظ ، هو الموفق ، إن جاءت الأمور كما نتمنى فلنحمد الله ، وإن جاءت على خلاف ما نتمنى فلنراجع أنفسنا ، لأن زوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين .
أيها الأخوة الكرام ، الحقائق الناصعة ينبغي أن تدفعنا إلى طاعة الله عز وجل ، ينبغي أن تدفعنا إلى اتهام أنفسنا ، ينبغي أن تدفعنا إلى عقد الأمل بالله عز وجل ، لذلك أخطر شيء تمر به الأمة أن تحبط من الداخل ، الإحباط نفسي وهناك إحباط العمل ، الإحباط النفسي اليأس ، الاستسلام ، إحباط العمل أن ترى أن العمل الذي قمت به لم تقطف ثماره أبداً لأنه رافقته نية سيئة أو شرك خفي أو عمل سيء ألغى مفعول العمل الصالح .
أيها الأخوة ، كطرفة في امتحان اللغة العربية لو جاءت كلمة مفعولاً به فهناك نصف علامة على كلمة مفعول به ونصف على منصوب ، لو شخص قال مفعول به مرفوع يأخذ صفراً ، مفعول به صح ، قال الخطأ في الجزء الثاني يذهب صواب الجزء الأول ، إذا قال مفعول به مرفوع صفر ، إذا قال مفعول به فقط يأخذ نصف علامة ، إذا قال مفعول به منصوب يأخذ علامة ، أما إذا قال مفعول به مرفوع الخطأ في الجزء الثاني يذهب صواب الجزء الأول ، العمل السيئ حجاب بينك وبين الله ، العمل الصالح قد تلقى جزاءه في الآخرة لكن لن تقطف ثماره في الدنيا ، العمل السيئ الآخر حجبك عن الله عز وجل .
أيها الأخوة ، هذه الحقائق مؤيده بالقرآن الكريم وبالسنة الشريفة ، وأرجو الله عز وجل أن ننتفع بهذا الكلام .
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ، ولا يقضى عليك ، وإنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك و نتوب إليك ، اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت ، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير ، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام ، وأعز المسلمين ، انصر المسلمين في كل مكان ، وفي شتى بقاع الأرض يا رب العالمين ، اللهم أرنا قدرتك بأعدائك يا أكرم الأكرمين .
والحمد لله رب العالمين