وَلاَ تُؤْمِنُوا حتَّى تَحَابُّوا
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، نَهَى عِبَادَهُ عَنْ وَسَاوِسِ الضَّغِينَةِ، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّحَلِّي بِكُلِّ مَا يُحَـقِّقُ لَهُمُ الأَمْنَ وَالهُدُوءَ وَالسَّكِينَةَ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ بِمَا هُوَ لَهُ أَهْـلٌ مِنَ الحَمْدِ وَأُثْنِي
عَلَيْهِ، وَأُومِنُ بِهِ وَأَتَوكَّلُ عَلَيْهِ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْـلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ و
َرَسُولُهُ، مَنْ أَوْدَعَ فِي قَلْبِهِ مَحَبَّتَهُ، نَالَ رَحْمَةَ اللهِ وَأَدْرَكَ مَثُوبَتَهُ، القَائِلُ: (( أَحِبُّوا اللهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ بِهِ مِنْ نِعَمِهِ، وَأَحِبُّونِي لِحُبِّ اللهِ إِيَّايَ ))، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ
وَعَلَى آلِهِ وَأصَحْابِهِ الذِينَ حقَّقُوا الحُبَّ فِي اللهِ تَحقِيقًا، وَزَادُوهُ بِحُسْنِ مُعَامَلاَتِهِمْ تَأْكِيدًا وَتَوثِيقًا، وَجَعَلُوهُ لَهُمْ مَنْهَجًا وَطَرِيقًا، وَرَضِيَ اللهُ عَنِ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ
الدِّيْنِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
لِلْحَيَاةِ فَضَائِلُهَا التِي يَجِبُ أَنْ تَتَحقَّقَ، وَيلْزَمُ أَنْ تَتَأصَّلَ وَتَتأكَّدَ وَتَتوثَّقَ، إِذْ لاَ قِيمَةَ لِحَيَاةٍ لاَ فَضَائِلَ فِيهَا، حَيْثُ لاَ خَيْرَ يَفِدُ إِلَيْهَا وَيأْتِيها، وَالفَضَائِلُ فِي الإِسلاَمِ لاَ تَأْتِي مُرُورًا وَلاَ تَفِدُ عُبُورًا، بَلْ لاَ بُدَّ أَنْ تَتَهيّأَ لَهَا الفُرْصَةُ لِلثَّبَاتِ وَالاستِقْرَارِ، وَالدَّوَامِ وَالاستِمْرَارِ، وَلمَّا كَانَتِ الحَيَاةُ لاَ تَنْفَصِلُ عَنِ الأَحيَاءِ لأَنَّها مِنْهُمْ وَإِلَيْهِمْ، لَزِمَ أَنْ يَرْعَى الإِنْسَانُ هَذِهِ الفَضَائِلَ وَيُنمِّيَهَا لِتَتَكَاثَرَ وَتَتَوافَرَ، بِحَيْثُ لاَ تَخْـلُو زَاوِيَةٌ مِنَ الحَيَاةِ وَلاَ يَخْلُو مَكَانٌ إِلاَّ وَلِلْفَضَائِلِ فِيهِ مُستَقَرٌّ وَمَكَانٌ، وَبِذَلِكَ يَعِيشُ الإِنْسَانُ آمِنًا فِي حَيَاتِهِ، وَيُلاَزِمُهُ التَّوفِيقُ فِي كُلِّ تَصَرُّفَاتِهِ، ولِمَ لاَ؟ وَقَدْ أَصْبَحَ لِنَيْـلِ الفَضَائِلِ سَاعِيًا، وَغَدَا لَهَا حَافِظًا وَرَاعِيًا، فَأَمْسَى وَقَدْ سَعِدَ حَالُهُ وَهَدأَ بَالُهُ، فَإِذا أَصْبَحَ بَاشَرَ عَمَلَهُ وَأَدَّاه بِكُلِّ عِنَايَةٍ، فَبَرَّ يَوْمَهُ وَلَمْ يَعُقَّهُ، لَقَدْ حَافَظَ عَلَى الوَقْتِ؛ آخِذًا مِنْ تَقلُّبِ اللَّيْـلِ وَالنَّهَارِ عِبَرًا وَعِظَاتٍ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ))(1)، وَيَقُولُ جَلَّ شَأْنُهُ: ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ))(2)، إِنَّ اللهَ يُبَارِكُ فِي وَقْتِ الإِنْسَانِ حِينَ يُعْمَرُ بِالفَضَائِلِ، فَإِذَا العَمَلُ الوَافِرُ الكَثِيرُ يُنْجَزُ فِي وَقْتٍ قَلِيلٍ وَزَمَنٍ قَصِيرٍ، وَيَبقَى لِلإنْسَانِ مِنَ الوَقْتِ بَعْدَ ذَلِكَ بَقِيَّةٌ؛ يُنْجِزُ فِيهَا أَعمَالاً لاَ تَقِلُّ دَرَجَةً وأَهَمِّيَّةً، وَلاَ شَيءَ كَحَمْدِ اللهِ وَذِكْرِهِ وَتَسْبِيحِهِ وَشُكْرِهِ بِالمَقَالِ أَو بإِنْجَازِ الأَعْمَالِ، لاَ شَيءَ كَهَذَا يَضَعُ البَرَكَةَ فِي اللَّيْـلِ وَالنَّهَارِ، بِمَا يَحْوِيَانِ مِنْ إِصبَاحٍ وَإِمْسَاءٍ وَعَشِيٍّ وَإِظْهَارٍ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ))(3)، وَالذِي يَتَحلَّى بالفَضَائِلَ وَيُواظِبُ عَلَيْهَا، ويُيَسِّرُ كُلَّ طَرِيقٍ
لِلْوُصُولِ إِلَيْهَا؛ يُيَسِّرُ اللهُ لَهُ أُمُورَهُ، وَيُضَاعِفُ لَهُ أُجُورَهُ، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- : (( مَنْ سَنَّ فِي الإِسلاَمِ سُنَّةً حَسَنةً فَلَهُ أَجْرُها وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ ب
َعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيءٌ ))، أَمَّا مَنْ شَوَّهَ الفَضَائِلَ وَقَلَبَ الحَقَائِقَ وَغَيَّرَهَا وَحَرَّفَها فَلَنْ يَنَالَ إِلاَّ تَبِعَاتِ وِزْرِهِ، وَوِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ إِلَى أَنْ يَرِثَ اللهُ
الأَرْضَ ومَنْ عَلَيْهَا، وَهَذَا مَا عَنَاهُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- بِقَولِهِ: (( مَنْ سَنَّ فِي الإِسلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ ي
َنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيءٌ ))، إِنَّ الذِي يُشَوِّهُ فَضِيلَةً، أَو يُنْشِئُ رَذِيلَةً ويُوْهِمُ النَّاسَ أَنَّهَا فَضِيلَةٌ هُوَ يَكْذِبُ وَيَفْتَرِي وَيَتَحَمَّـلُ سُوءَ أَعْمَالِهِ، وَوِزْرَ ضَلاَلِهِ وَإِضْلاَلِهِ، فَيُضِيفُ
أَثْقَالاً إِلَى أَثْقَالِهِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ))(4).
أيُّهَا المُسلِمُونَ :
إِنَّ مِنَ الفَضَائِلِ التِي حَثَّ الإِسلاَمُ عَلَيْهَا وَدَعَا لِعِمَارَةِ الحَيَاةِ بِهَا فَضِيلَةَ الحُبِّ للهِ وَرَسُولِهِ -صلى الله عليه وسلم- أَوَّلاً، ثُمَّ مَا يُثْمِرُهُ ذَلِكَ مِنْ حُبِّ النَّاسِ أَجْمَعِينَ،
فَبِتَحَقُّقِ هَذِهِ الخَصْـلَةِ العَظِيمَةِ بَيْنَهُمْ تَحلُو الحَيَاةُ وتُزْهِرُ، وتُضِيءُ وتُسْـفِرُ، لِذَا حَثَّ الإِسلاَمُ عَلَى أَنْ يَبقَى الطَّرِيقُ أَمَامَ هَذِهِ الفَضِيلَةِ مُمَهَّدًا، نَظِيفًا مُعَبَّدًا، لِيَأْخُذَ مَجْرَاهُ دُونَ
عَوَائِقَ تَعُوقُ، أَو تَسُدُّ أَمَامَهُ الطَّرِيقَ، وَإِنْ حَدَثَ أَنْ ظَهَرَتْ فِي طَرِيقِ الحُبِّ عَوِائقُ أَو سُدُودٌ، فَإِنَّ الإِسلاَمَ يَحُثُّ عَلَى تَضَافُرِ الجُهُودِ لإِزَالَةِ هَذِهِ المُعَوِّقَاتِ وَالسُّدُودِ؛ حتَّى
يُواصِلَ الحُبُّ مَسِيرَهُ، وَطَرِيقُ الوُصُولِ إِلَى ذَلِكَ يَسِيرٌ، وَمِنْ ذَلِكَ تَنْحِيَةُ كُلِّ وِشَايَةٍ، وَإِغْفَالُ كُلِّ نَمِيمَةٍ، فَرُبَّ وِشَايَةٍ مُغْرِضَةٍ عَكَّرَتْ صَفْوَ العَلاَقَاتِ وَشَغَلَتِ الأَوقَاتَ، وَكَانَ
يَجِبُ أَنْ تَبقَى العَلاَقَاتُ مَتِينَةً قَوِيَّةً، وَسَفاسِفُ الأُمُورِ عَنِ الأَوقَاتِ بَعِيدَةً قَصِيَّةً، يَقُولُ اللهِ تَعَالَى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا
بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ))(5)، وَلَقَدْ كَانَ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- حَرِيصًا عَلَى أَنْ يَقْطَعَ الطَّرِيقَ أَمَامَ كُلِّ وِشَايَةٍ مُنْذُ البِدَايَةِ، حتَّى لاَ يَفِدَ إِلَى
قَلْبِهِ النَّقِيِّ التَّقِيِّ مِنَ الأُمُورِ مَا يُعَكِّرُ ويُوغِرُ الصُّدُورَ؛ فَكَانَ يَقُولُ لأَصْحَابِهِ: ((لاَ يُبلِّغُنِي أَحَدٌ عَنْ أَصحَابِي شَيْئًا؛ فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْـكُمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ))، وَلَقَدْ
كَانَ الصَّحَابَةُ وَأَهْـلُ الفَضْـلِ مِنْ بَعْدِهِمْ يَضِنُّونَ بِأَوقَاتِهِمْ أَنْ يُضَيِّعُوهَا بِتَصْدِيقِ وِشَايَةٍ وَنَمِيمَةٍ؛ لأَنَّ الوَقْتَ عِنْدَهُمْ لَهُ قِيمَةٌ عَظِيمَةٌ، رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بنِ عَبْدِ العَزِيزِ - رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ - (( أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَذَكَرَ لَهُ عَنْ رَجُلٍ شَيْئًا؛ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: إِنْ شِئْتَ نَظَرْنَا فِي أَمْرِكَ، فَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَأَنْتَ مِنْ أَهْـلِ هَذِهِ الآيَةِ: ((إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ
فَتَبَيَّنُوا))(6)، وَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَأَنْتَ مِنْ أَهْـلِ هَذِهِ الآيَةِ: ((هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ))(7)، وَإِنْ شِئْتَ عَفَوْنَا عَنْكَ، فَقَالَ: العَفْوَ يَا أَمِيرَ المُؤمِنِينَ؛ لاَ أَعُودُ إِلَى ذَلِكَ أَبَدًا ))
، إِنَّ كُلَّ وِشَايَةٍ يَقْصِدُ صَاحِبُهَا مِنْ وَرَائِهَا النَّيْـلَ مِنْ حُبِّ امْرِئٍ لأَخِيهِ تُعَدُّ خِسَّةً وَدَنَاءَةً، يَجِبُ أَنْ يَزْدَرِيَهَا الإِنْسَانُ وَيَطْرَحَها وَرَاءَهُ، فالحُبُّ رَصِيدٌ يَجِبُ الحِفَاظُ عَلَيْهِ وَعَدَمُ
المِسَاسِ بِهِ، بَلْ يَجِبُ العَمَلُ عَلَى زِيَادَتِهِ وَإِنْمَائِهِ، وَتَغْذِيَتِهِ وَإِرْوَائِهِ، وَإِذَا حَدَثَ مَا يُذْبِلُ الحُبَّ ويُعَكِّرُ صَفْوَهُ، مِنْ عَثْرَةٍ بِاللِّسَانِ وَهَفْوَةٍ؛ فَلْيُسرِعْ كُلُّ مُحِبٍّ لِلْفَضَائِلِ إِلَى بَذْلِ
كُلِّ مَا يَستَطِيعُ لِلْوُصُولِ إِلَى الإِصْلاَحِ، سَائِلاً اللهَ التَّوفِيقَ وَالنَّجَاحَ، وَسيُعِينُهُ اللهُ إِنْ شَاءَ عَلَى تَحقِيقِ مَا أَرَادَ وَإِنْجَازِ مَا شَاءَ، وَإِنَّ حُسْنَ النِّيَّةِ وَسَلاَمَةَ الطَّوِيَّةِ مِنَ
المُتَهَاجِرَينِ وَالمُتَدَابِرَينِ وَمِمَّنْ تَدَخَّلَ لِلإِصلاَحِ بَيْنَهُمَا، كُلُّ هَذِهِ أُمُورٌ جَدِيرَةٌ بِالاهتِمَامِ؛ لِيَعُودَ الحُبُّ إِلَى صَفَائِهِ المَعْهُودِ، لأَنَّهِ فِي الأَصْـلِ ثَابِتٌ وَمَوْجُودٌ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى
فِي شَأْنِ مَا يُخْشَى وُقُوعُهُ مِنْ شِقَاقٍ بَيْنَ زَوْجَيْنِ: ((وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا
خَبِيرًا))
(
، وَمَا يَنْطَبِقُ عَلَى الإِصْـلاَحِ بَيْنَ زَوْجَيْنِ يَنْطَبِقُ عَلَى غَيْرِهِمَا مِمَّنْ تَبَاعَدا بَعْدَ قُرْبٍ، وَتَبَاغَضَا بَعْدَ حُبٍّ، وَلَقَد تَّكفَّلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِكُلِّ مَنْ أَسْهَمَ فِي الإِصْـلاَحِ
بَيْنَ مُتَخَاصِمَيْنِ وَالوِصَالِ بَيْنَ مُتَهَاجِرَيْنِ أَنْ يَشْمَلَهُ بِرَحْمَتِهِ، وَرِضْوَانِهِ وَمَثُوبَتِهِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ))(
9)، كَمَا رَفَعَ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ قَدْرِ هَذَا العَمَلِ الذِي أَعَادَ الحُبَّ إِلَى نَقَائِهِ، وَرَوْنَقِهِ وَصَفَائِهِ؛ فَجَعَلَ لَهُ مَكَانَةً تُضَاهِي بَلْ تَفُوقُ دَرَجَةَ أَعْظَمِ العِبَادَاتِ،
مِنْ صِيَامٍ وَصَلاَةٍ وَصَدَقَاتٍ، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- : (( أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيامِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: إِصْـلاَحُ ذَاتِ البَيْنِ؛
فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ البَيْنِ هِيَ الحَالِقَةُ، لاَ أَقُولُ تَحْـلِقُ الشَّعْرَ وَلكِنْ تَحْـلِقُ الدِّينَ))، وَحتَّى تَبقَى عَلاَقَاتُ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ غَضَّةً طَرِيَّةً، رَيَّا نَدِِيَّةً؛ نَحَّى الإِسلاَمُ عَنْ
طَرِيقِ
المَحَبَّةِ كُلَّ آفَةٍ تُصِيبُ بَهَاءَها وَتَحْجُبُ ضِيَاءَهَا، وَمِنْ هَذِهِ الآفَاتِ ظَنُّ السَّوءِ بِالنَّاسِ، مِنْ غَيْرِ بَيِّـنَةٍ وَعَلَى غَيْرِ أَسَاسٍ، إِنَّها آفَةٌ جَدِيرَةٌ بِالاستِئْصَالِ؛ لأَنَّ استِمْرَارَها يُؤَدِّي
إِلَى وَأْدِ الحُبِّ وَقَبْرِ الوِصَالِ، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- : ((إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ))، وَيَقُولُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((لاَ
تَظُنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَخِيكَ إِلاَّ خَيْرًا وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الخَيْرِ مَحْمَلاً))، وَمِنْ هَذِهِ الآفَاتِ التِي تُدَمِّرُ فَضِيلَةَ الحُبِّ بَيْنَ النَّاسِ التَّجَسُّسُ وَالغِيبَةُ، لِذَا حَرَّمَ الإِسلاَمُ هَذِهِ
الآفَاتِ فِي آيَةٍ كَرِيمَةٍ مِنْ سُورَةِ الحُجُراتِ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُمْ بَعْضًا
أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ))(10).
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، وَاعلَمُوا أَنَّ الحَيَاةَ هَادِئَةٌ نَاعِمَةٌ، مَا دَامَتْ وَسَائِلُ الحُبِّ قَائِمَةً مُستَمِرَّةً دَائِمَةً.
أقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
*** *** ***
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
لَقَدْ حَذَّرَ الإِسلاَمُ مِنْ آفَاتٍ لَو بَقِيَتْ وَاستَمَرَّتْ كَانَ أَثَرُهَا فِي الحُبِّ خَطِيرًا؛ فَهِيَ تَقْضِي عَلَى المَحَبَّةِ وتُدَمِّرُها تَدْمِيرًا، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- : ((لاَ
تَحَاسَدُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضِ، وَكُونُوا -عِبَادَ اللهِ- إِخْوَانًا))، إِنَّ الحُبَّ إِذَا استَقَرَّ فِي قَلْبِ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الأُسْرَةِ وَالمُجتَمَعِ؛ تَفَرَّغَ
كُلُّ
إِنْسَانٍ لأَدَاءِ عَمَلِهِ أَدَاءً مُتْـقَنًا مُحْـكَمًا بِكُلِّ هِمَّةٍ وَعَزِيمَةٍ، حَيْثُ النُّفُوسُ هَادِئَةٌ وَالقُلُوبُ سَلِيمَةٌ، فَاختِفَاءُ البَغْضَاءِ وَالضَّغِينَةِ يُسَاوِي حَتْمًا هُدُوءًا وَسَكِينَةً، وَالنُّفُوسُ إِذَا هَدَأَتْ
وَسَكَنَتْ بَاشَرَ الإِنْسَانُ مَا وُكِلَ إِلَيْهِ مِنْ عَمَلٍ بِنَشَاطٍ وقُوَّةٍ. إِنَّ الحَيَاةَ فِي ظِلاَلِ الحُبِّ نَاضِرَةٌ زَاهِرَةٌ، وَالأَوقَاتَ بِحُسْنِ العَمَلِ وَمكَارِمِ الأَخْلاَقِ عَامِرَةٌ، وَلِرِفْعَةِ مَكَانَةِ الحُبِّ
وَسُمُوِّ قَدْرِهِ وَتَعْظِيمِ أَمْرِهِ جَعَلَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ نَعِيمًا يَتَلذَّذُ بِهِ أَهْـلُ الجَنَّةِ فِي الجَنَّةِ، حَيْثُ الغِلُّ مِنَ القُلُوبِ مَنْزُوعٌ، وَالبُغْضُ فِيهَا مَجْذُوذٌ وَمَقْطُوعٌ، وَالأَمْنُ وَالسَّلاَمُ فِيهَا شِعَارٌ
دَائِمٌ مَرْفُوعٌ، وَأَلْسِنَةُ أَهْـلِ الجَنَّةِ فِي الجَنَّةِ تَلْهَجُ بِحَمْدِ اللهِ وَشُكْرِهِ، وَتَسبِيحِهِ وَذِكْرِهِ، عَلَى أَنْ وَفَّقَهُمُ اللهُ لِهَذَا وَهَدَاهُمْ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ))(11)، وَقَدَ نُزِعَ الغِلُّ مِنْ قُلُوبِ أَهْـلِ الجَنَّةِ قَبْـلَ دُخُولِهَا، لأَنَّ نَعِيمَها لاَ
يَنَالُهُ حَقُودٌ، وَلاَ مُبْغِضٌ وَلاَ حَسُودٌ، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- : ((لاَ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حتَّى تُؤْمِنُوا، وَلاَ تُؤْمِنُوا حتَّى تَحَابُّوا، أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ ت
َحَابَبْـتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ)).
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، وَاعلَمُوا أَنَّ مَنْ حَرَمَ نَفْسَهُ فِي دُنْيَاهُ مِنَ الحُبِّ فِي اللهِ حُرِمَ مِنْهُ فِي أُخْرَاهُ، فَكَيْفَ يَحْرِمُ إِنْسَانٌ نَفْسَهُ هَذَا الخَيْرَ العَمِيمَ؟ إِنَّهُ تَصَرُّفٌ غَيْرُ سَلِيمٍ وَلاَ
مُستَقِيمٍ.
هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: (( إِنَّ اللهَ
وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (12).
اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وسَلّمْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا
مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ
سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً
طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجْمِعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الحَقِّ، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظِّالِمِينَ، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعِبادِكَ أ
اَجْمَعِينَ.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
عِبَادَ اللهِ :
(( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ )).