إصلاح الباطن
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ، ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ، ولا اعتصامي ، ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهمَّ صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
جرى فسقٌ في بعض الفنادق ، حيث شُرب الخمر ، وحيث الاختلاط بين النساء والرجال، وقد كتب على بطاقة الدعوى : الطيِّبون للطَّيِّبات ! أيُّ طيبٍ هذا ؟ أفي هذه المعاصي التي اقْتُرفَت؟ أم في هذه الخمور التي شربَت .
أيها الإخوة المؤمنون ، هذا الذي يعتبُ على الله عز وجل لأنّه توهَّم أنَّ الله تخلّى عن المؤمنين ، والله سبحانه وتعالى ما كان له أن يتخلّى عن المؤمنين ، هذا من سابع المستحيلات ، ولكن لِنُلاحظ أنفسنا ، هل نحن في مستوى تأييد الله لنا ؟
أيها الإخوة الكرام ، آيةٌ ثانية ، وهي قوله تعالى :
[ سورة الأنعام ]
إذا اجْتنَبَ الإنسان الفواحش الباطنة كالخمر ، الزنا ، السرقة ، إذا اجْتنَبَ الإنسان الفواحش الظاهرة فما له لا يجتنبُ الفواحش الباطنة ؟ الفواحش الباطنة أشدّ فَتْكًا في الإنسان من الفواحش الظاهرة ، لماذا ؟ لأنّ الفواحش الظاهرة سريعا ما يتوب الإنسان منها ، أما الفواحش الباطنة إذا اسْتمرأها واسْتقرَّ عليها ، ورضي بها ، وجعلها دَيْدَنًا له ، هذه الفواحش الباطنة تهلكُه ، وتلقي به في مهاوي الرّدى .
أيها الإخوة الكرام ، قال تعالى :
[ سورة الأنعام ]
كما نحرصُ على عيوننا ، كما نحرصُ على حواسّنا ، ما منَّا واحدٌ إلا يكادُ يخرجُ من جلده إذا شعر أنّ في عَيْنِهِ خللاً ، أو أنّ في سمْعه خللاً ، أو أنّ في حركته خللاً ، أو أنّ في نطقهِ خللاً يُبادرُ إلى الطبيب ، ويعلوه الهمّ ، ويمتلأُ قلبهُ حزنًا وضيقًا ، فما له لا يتألَّم الألم نفسهُ إذا رأى في قلبه حسدًا ؟ أو رأى في قلبه ضغينةً ؟ أو رأى في قلبه كِبْرًا ؟ أو رأى في قلبه استِعْلاءً ؟ أو رأى في قلبه اتِّهامًا للآخرين ؟ أو رأى نفسه فوق الناس ؟ ما له لا يطير ألمًا ، أو ما له لا يخرج من جلده ألمًا إذا أدرك أنّ قلبهُ ليس سليمًا ؟ وأنَّه سيلقى الله به ، وأنّه رأس ماله يوم القيامة ، وأنّ الله لا ينظر إليه ، وأنّ الله سيحْجبهُ عنه ، هذا معنى قول الله تعالى:
[ سورة الشعراء ]
كيف نسْتحقّ نصْر الله إذا كنَّا متدابرين ؟ إذا كنّا متباغضين ؟ إذا كنَّا متحاسدين ؟ إذا أراد بعضنا أن يحطِّمَ بعضه الآخر ، إذا أردنا أن نأكل أموالنا بالباطل ، ونُدْلي بها إلى الحكام ، إذا امتلأَ قصْرُ العدْل بالقضايا التي تزيد عن عشرات الألوف كلّها دعاوَى بالباطل ، كلُّها من أجل أن نأكل حقّ إخواننا ، أتُريدون من الله عز وجل أن ينصرنا على هذا الحال ؟ ما جَدْوى عبادتنا ؟ ماذا تنفعُ صلاةٌ جَوْفاء ؟ ماذا ينفعُ صيامٌ لا معنى له ؟ ماذا ينفعُ حجٌّ إلى بيت الله الحرام ، ولم يعُد الحاجّ بِنَموذج آخر ؟ عاد أسْوَأ مِمَّا ذهب ، أهذا هو الإسلام ؟ أهؤلاء الذين يستحقُّون النَّصْر من الواحد الدّيان ؟
أيها الإخوة الأكارم ، آيةٌ ثالثة تشير إلى إصلاح الباطن ، قال تعالى :
[ سورة الكهف ]
إنَّه الشِّرك الخفيّ ، أخْوَفُ ما أخاف على أمّتي الشّرك الخفيّ ، أما إنَّني لسْتُ أقول إنّكم تعبدون صنمًا ولا حجرًا ، ولكن شَهْوةٌ خفِيّة ، وأعمال لغير الله ، أن ترائي بِعملك ، الرّياء والشّرك من لوازم البعد عن الله عز وجل ، الرّياء والشِّرك يُحبطان العمل ، ألم تقرأ قوله تعالى :
[ سورة الفرقان ]
لماذا قُذِفَ هذا العمل وجُعِلَ هباءً منثورًا ؟ لماذا ردّ هذا العمل إلى وُجوه فاعليه ؟ لماذا لمْ يقبل هذا العمل ؟ لأنّ الشِّرْك خالطَهُ ، ولأنّ الرّياء خالطَهُ ، ما الشِّرْك وما الرِّياء إلا ضَعْفٌ في التوحيد، لذلك قال الله عز وجل :
[ سورة الكهف ]
يا أيها الإخوة الأكارم ، هذه الأعضاء الظاهرة يجبُ أن تعبد الله تعالى عبادة العين غضُّ البصر ، وعبادة الأذن ألا تسمع الغيبة والنميمة والغناء وما إلى ذلك ، عبادة اللّسان أن يكون رطْبًا بِذِكْر الله ، عبادة اليد الإحسان ، وعبادة الرّجل السَّيْر إلى بيوت الله عز وجل ، هذه العبادات الظاهرة ، وأما القلب فعِبادتُهُ الإخلاص لله عز وجل ، قال تعالى
[ سورة الأنعام ]
لا بدّ من أن يعبد القلب الله ، وعبادة القلب إخلاصه لله ، لا رياء ، ولا شِرْك ، ولا نفاق ، ولا مداهنَة ، ولا مُصانعَة ، ولكن إلهي أنت مقصودي ، ورضاك مَطلوبي ، قال تعالى :
[ سورة الإنسان ]
أيها الإخوة الأكارم ، حديث شريف يؤكّد المعنى نفسه ، قال عليه الصلاة والسلام : ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، و إذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب)) ، هذا القلب إنْ صلح صلح الجسد كلّه بالمعنى المادّي ، وإن فسدَ فسَدَ الجسد كلّه بالمعنى الروحي ، إن صلح القلب صلحَت العبادات ، وقُبِلَتْ الأعمال ، وصحَّ السُّلوك ، وإن فسد كان النّفاق والرِّياء ، وكان ردّ العمل ورفضهُ ، وحجْبُ صاحبه عن الله عز وجل .
أيها الإخوة الأكارم ، حديث آخر يؤكِّد المعنى نفسه : ((إنّ الله لا ينظر إلى صوركم ، ولكن ينظر إلى أعمالكم)) ، الإنسان مهما حسَّن في منظره فالموت كما قلتُ لكم في خُطبٍ سابقة يلغي غِنَى الغنيّ ، ويلغي فقْر الفقير ، ويُلغي قوّة القويّ ، ويُلغي ضَعف الضعيف ، ويُلغي صِحَّة الصحيح ، ويٌلغي سُقْم السقيم ، الموت يلغي كلّ شيءٍ ، ولكنّ العمل الصالح هو الذي يبدأ بعد الموت يا قُيَيْس إنّ لك قرينًا يُدْفنُ معك ، وهو حيّ ، وتُدْفن معه ، وأنت ميّت ، فإن كان كريمًا أكرمك ، وإن كان لئيمًا أسْلمك ألا ، وهو عملك .
أيها الإخوة الكرام ، ينبغي أن نسأل أنفسنا هذا السؤال كلّ يوم ؛ ما طبيعة العمل الذي أنا متلبّسٌ به ؟ هل أنا متلبِّسٌ بِعَملٍ لا يرضي الله تعالى ؟ هل في بيتي عملٌ لا يرضي الله تعالى ؟ هل في أهل بيتي سلوكٌ لا يرضي الله ؟ هل في كسْب مالي كسبٌ لا يرضي الله تعالى ؟ هل في إنفاق مالي إنفاقٌ لا يرضي الله تعالى ؟ هذا السؤال اليومي ، لأنّ الإنسان إذا عدَّ غدًا من أجله فقد أساء صُحْبة الموت ، فقد ينامُ ولا يستيقِظ ، وقد يستيقظ وينام في القبر ، وقد يسافر ، ولا يعود ، وقد يخرج من بيته ، ويعود مَحمولاً ، وقد يدخل البيت ، ويخرج منه محمولاً ، الموت سريع سريع ، وكلّ مخلوقٍ يموت ، ولا يبقى إلا ذو العزّة والجبروت ، الليل مهما طال فلا بدّ من طلوع الفجر ، والعمر مهما طال فلا بدّ من نزول القبر ، ما منَّا إلا ويقرأ النعي كلّ يوم ، كلّما مرّ على نعْي جديدة وقفَ أمامها ، وقرأ من المتوفّى ، وقرأ من هم آل المتوفّى ؟ وقرأ أين عنوان بيت المتوفّى ؟ فإن كان بينهما قرابةٌ بادرَ إلى تعزِيَتِهِ ، وهل يخطر في بال هذا الذي يقرأ هذه النّعَي أنَّه لا بدّ من يومٍ يقرأ الناس نعْوتُهُ ، ويصبح رهين عمله ، وأسير سُلوكه ويصبحُ في قبضة الله عز وجل ، قال تعالى :
[ سورة الشعراء ]
هذا الشيء الذي لا بدّ من أن يأتي ، قال تعالى عنه :
[ سورة النحل ]
معناه لمْ يأتِ ، مادام الله تعالى ينهانا عن أن نسْتعجلُه إذًا لمْ يأت بعدُ ، فلماذا عبَّر عنه الله بأنَّه قد أتى ؟ هذا من باب تحقّق الوُقوع ، يعني كلّنا قد حُكِمَ عليه بالموت مع وقْف التنفيذ ، ما من واحدٍ بعد مئة عامٍ ترونه في هذا المكان ، أبدًا ، باليقين ، كلّنا محكوم عليه بالموت مع وقف التنفيذ ، فالإنسان السعيد هو الذي يفكِّر دائمًا ، صباحًا ومساءً في سرِّه ، وفي جهره ، وفي خلوته ، وفي جلوته ، بهذه الساعة التي يفارق فيها الدنيا ، كلّ شيءٍ جمَّعهُ في حياته يفقدُه في ثانية واحدة ، ويصبِح رهين عمله ، فلذلك الإنسان إذا واجه الموت قبل أن يستعدّ له يُصْعق ، لكنّه إذا واجهه وقد اسْتعدَّ له بالأعمال الصالحة ، وبالتوبة والإنابة ، بِطَلب العلم الشرعي ، وبِحُضور مجالس العلم ، بان يستقيم على أمر الله ، وبأن يجعل بيته إسلاميًّا ، وعملهُ إسلاميًّا ، وكسْبهُ إسلاميًّا ، إلى أنْ يشْعر أنَّ الله سبحانه وتعالى قد رضيَ عنه ، هذا هو الذكاء ، وهذا هو العقل ، وهذا هو التفوُّق، وهذا هو النجاح ، وهذا هو التوفيق .
من خلال هذا البحث نجد أنّ هناك عبادات ظاهرة كالصوم والصلاة والحج والزكاة وغض البصر ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإصلاح ذات البَيْن ، إلى آخره ، وهناك عبادات باطنة كالتوبة والإنابة والتوكّل ، والتفويض والتسليم ، والتواضع والرضا بقَضاء الله وقدره ، والحبّ والرحمة والإنصاف ، وما إلى ذلك ، هذه العبادات الباطنة إذا صحّتْ صحَّت العبادات الظاهرة ، إذًا يمكن أن نقول ، ولَسْنا مبالغين : إنّ إصلاح القلب هو الدّين كلّه ، لأنّ إصلاح الظاهر شطْر الدّين ، وأنّ هذا الشَّطْر لا يصحّ إن فسدَ الباطن ، إذًا إصلاح الباطن هو الدّين كلُّه .
أيها الإخوة الأكارم ، يقول بعض العلماء الشريعة طافحةٌ بإصلاح القلوب بالمعارك والأحوال ، لا بدّ نم أن تعرف الله ، لا بدّ من أن تقتطِعَ من وقتك وقتًا لِمَعرفته ، لا بدّ من أن تقرأ كتاب الله ، لا بدّ من أن تستمع إلى تفسيره ، لا بدّ من أن تفهم حديث رسول الله ، لا بدّ من أن تقف على سيرته ، ولا بدّ من أن تعرف الأحكام الفقهيّة ، هذا جانبٌ من جوانب الشريعة ؛ طلب العلم ، لأنّ صلاح القلب وصلاح الظاهر أساسه المعرفة ، والمعرفة أساس الدّين ، وأصل الدِّين معرفتهُ ، فيقول أحد العلماء : الشريعة طافحة بإصلاح القلوب بالمعارف والأحوال ، والعزم والنيّات ، ومعرفة الأحكام الظاهرة معرفة لِجَلِيّ الشرع ، ومعرفة البواطن معرفةٌ لِدَقائق الشرع ، لا يكفي أن تعرف جلِيّ الشّرع ، لا بدّ من أن تعرف دقائقَهُ .
أيها الإخوة الأكارم ، هؤلاء الذين يقطعون الناس عن الله ، ما سِرُّهم ؟ إنَّهم تشبَّهوا بقَومٍ وليْسُوا منهم ، لا يُقاربونهم في شيء ، فعلوا الأفعال الظاهرة ، وكانت قلوبهم مُنْكرة ، لذلك كانوا مُثُلاً سيّئة للناس ، كيف أنَّ هناك في الناس من هو داعيةٌ إلى الله عز وجل ، يقرّب الناس إلى الله يُحبّبُ الناس لله عز وجل ، يزيدهم طاعةً لله عز وجل ، إنّ في الناس أناسًا فسدَ باطنهم ، وصلح ظاهرهم ، هؤلاء كَقُطَّاع الطُّرق يقطعون الزاهدين إلى الله عن بُغْيتهم ، لأنّهم مُثُلٌ سيّئة ، فيا أيها الأخ الكريم بإمكانك أن تكون موصلاً أو قاطعًا ، مُحَبِّبًا أو مُبَغِّضًا ، مرغِّبًا أو منفِّرًا جامعًا أو قاطعًا ، ِسُلوكك .
أيها الإخوة الكرام ، كمال الإيمان في التناسق بين الظاهر والباطن ، بين صلاح القلب وصلاح الأعضاء ، بين صلاح القلب وصلاح السُّلوك ، بين العمل الصالح ، وبين الإخلاص ، أما الذين انْفصَمَتْ شَخْصيّتهم ، وازْدَوجُوا ، وصار لهم ظاهرٌ يُرضي الناس ، وباطنٌ لا يرضي الناس في الباطن أحبُّوا الدنيا ، وأقبلوا عليها وفعلوا من أجلها كلّ شيءٍ واستهْوَنوا من أجلها كلّ محرّم ، هؤلاء الذين ازْدَوَجَتْ شخصيّاتهم ، كان لهم ظاهر وكان لهم باطن ، كانت لهم جَلْوة ، وكانت لهم خلوة ، ومن لم يكن له ورعٌ يصدّه عن معصيَة الله إذا خلا لمْ يعبأ الله بِشَيء من عمله، لذلك ترى هذا الانفصام في شخصيَة المسلم ، يعني أعماله ليْسَت إسلاميّة ، ولكنّه يتظاهر بِمَظاهر إسلاميّة ، عندهُ مسْبحٌ مختلط ويقيمُ مَوْلدًا للنبي عليه الصلاة والسلام يدْعو إليه بعض العلماء لِيُلقي الكلمات ويتبرَّك بهم !! ما هذا التبرّك ؟ ما هذه الشخصيّة المتناقضة ؟ معصِيَةٌ ظاهرة هو يرعاها، وهو سببها وبعد ذلك يريد أن يغطِّي هذه المعاصي ، وهذه الموبقات باحتفالات اسْتِعراضيّة ، يرفعُ نفسهُ إلى مقام المؤمنين ، الشخصية المزدوجة هي الشخصيَة التي يعاني منها العالم الإسلامي ، دينهُ في واد ، وحياته في واد ، كسْبُ ماله ، نزهاتهُ ، احتفالاته ، بيتهُ بعيد عن الدِّين ، ولكن له مظاهر إسلاميّة ربّما توهَّم المُتَوَهِّمون أنَّهم من الأتقياء الكبار .
أيها الإخوة الأكارم ، هذا الازدواج في الشخصية يجعل المسلمين يتنافسون ولا يتعاونون، يتباغضون ولا يتراحمون ، يتراشقون التُّهَم ولا يُحسن بعضهم لبعض الظنّ ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام : ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ، قالوا : أو من قلة نحن يا رسول الله ؟ قال : إنكم كثير ، و لكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله المهابة من صدور عدوكم ، و ليقذفن في قلوبكم الوهن ، قالوا : وما الوهن ؟ قال : حب الدنيا و كراهية الموت)) ، حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة ، حبُّ الدنيا وكراهيَة الموت هو الوهْن الذي يصيب المسلمين في العالم الإسلامي في آخر الزمان ، هم يزيدون عن مليار ومئتي ألف ! أكثر من خمْس سُكَّان الأرض ، مع أنّ النبي عليه الصلاة والسلام : ((لن تغلب من أمّتي من اثني عشرة ألف من قلّة)) ، يعني اثنى عشر ألف مؤمن كما أراد الله عز وجل لن يُغْلبوا ، أما إذا كان مليار ومئتي ألف باطنهم فاسِد ، قلبهم بعيد عن ذكر الله ، أعمالهم الظاهرة بعضها وأكثرها غير منضبط، فأنَّى لهم أن يستحقُّوا نصر الله عز وجل ؟
أيها الإخوة الأكارم ، روى البخاري ومسلم : ((أن تُبْسَطَ عليكم الدنيا ...)) ، المنافسة على الدنيا هي سبب أكبر المصائب التي حلَّتْ بالمسلمين ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام : ((تعِسَ عبْد الدّرهم والدينار ...)) .
أيها الإخوة الأكارم ، للموضوع صلة نتابعهُ في خطبة قادمة حيث نتحدّث عن العلاج .
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطّى غيرنا إلينا فلْنَتَّخِذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتْبعَ نفسه هواها ، وتمنّى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين ، وأشهد أنّ سيّدنا محمَّدًا عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم ، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أيها الإخوة الكرام ، قيل : هلك المُسَوِّفون ، المُسَوِّف الذي إذا جلس في مجلس علم ، أو في خطبة جمعة ، وتأثَّر بأفكارها ، وأراد أن يتوب إلى الله عز وجل قال :سأفعل بعد حين ! في أوّل العام الدراسي إذا كان طالبًا أو في أوّل انتهائِهِ من الفُحوص ، إذا كان في العام الدّراسي ، أو بعد أن أتزوّج ، أو بعد أن أُؤسِّس هذا المحلّ !! هذا الذي يعلّق توبته على حدثٍ مستقبلي ، إنّه مسوِّف ، وقد قيل ، هلك المسوِّفون ، لأنّه قد لا يدري أيَصِلُ إلى هذا الموعد ، أو لا يصل ؟ فيا أيها الإخوة العلم ما لم يُعْملُ به ، الجهل أولى منه ، لأنّ العلم يضعُك عند مَسؤوليّاتك ، العلم ما لم يُعْملُ به كان الجهل أولى منه ، لأنّ الجاهل له حساب ، والذي بلغه العلم له حساب فيا أيها الإخوة، الإنسان إذا اتَّعَظ ، أو إذا تأثَّر ، أو إذا أجْرى محاكمةً منطقِيَّةً فرأى أنَّ الخير أن يتوب إلى الله ، أنّ الخير أن يدعَ هذا العمل ، أنّ الخير أن يدَعَ هذه التِّجارة ، الخير أن يضبط بيتهُ ضبطًا إسلاميًّا ، الخير أن ينطلق إلى طاعة الله عز وجل ، إذا رأى الخير كذلك فلا يُسَوِّف لأنّه إن سوَّف هلك ، وهلك المُسوِّفون ، أساسًا ما من واحد على وجه الأرض متلبّس بِمَعصيَة إذا كان على إيمانٍ ضعيف بالله عز وجل إلا ويقول : سوف أتوب إن شاء الله ، ولكن كلمة سوف في موضوع التوبة ربّما كانت مهلكة ، فلذلك عقدَ أحدكم العزم أن يتوب فلْيَتُب من توِّه ، ولْيُبادر إلى إصلاح ظاهره وباطنه ، وليُقِم الإسلام في بيته ، إن فعل ذلك قطَفَ الثِّمار يانعةً في اللّحظة التي يتوب فيها ، إذا رجع العبد العاصي إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هنِّؤوا فلانًا فقد اصطلح مع الله ، التَّهْنئة الحقيقيّة لا في شراء البيت ، ولا في زواجٍ ناجح ، ولا في اقْتناء مركبةٍ ثمينة ، ولا في اعتِلاء منْصِبٍ رفيع ، التَّهنئة الحقيقيّة تلك التي تحصل إذا اصطلح الإنسان مع ربّه، وتعرّف إليه ، وطبَّق منهجُ ، إذًا هو في الخطّ الصحيح ، وفي الموقع الصحيح ، وفي الهدف الصحيح ، يشعر أنَّه حقق الهدف من وُجود ، وحقَّق إنسانيّته .
اللهمّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيْت ، وتولَّنا فيمن تولّيْت ، وبارك اللّهم لنا فيما أعْطيت ، وقنا واصْرف عنَّا شرّ ما قضَيْت فإنَّك تقضي ولا يُقضى عليك ، إنَّه لا يذلّ من واليْت ، ولا يعزّ من عادَيْت ، تباركْت ربّنا وتعاليْت ، ولك الحمد على ما قضيْت نستغفرك اللهمّ ونتوب إليك ، اللهمّ هب لنا عملاً صالحًا يقرّبنا إليك ، اللهمّ أعطنا ولا تحرمنا ، وأكرمنا ولا تهنّا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وأرضنا وارضَ عنَّا ، وأصْلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصْلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصْلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا ، واجْعل الحياة زادًا لنا من كلّ خير ، واجعل الموت راحةً لنا من كلّ شرّ ، مولانا ربّ العالمين ، اللهمّ اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمَّن سواك ، اللهمّ لا تؤمنَّا مكرك ، ولا تهتِك عنَّا سترَك ، ولا تنسنا ذكرك ، يا رب العالمين ، اللهمّ إنَّا نعوذ بك من عُضال الداء ومن شماتة العداء ، ومن السَّلْب بعد العطاء ، يا أكرم الأكرمين ، نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الذلّ إلا لك ، ومن الفقر إلا إليك ، اللهمّ بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحقّ والدِّين ، وانصر الإسلام ، وأعزّ المسلمين، وخُذ بيَدِ وُلاتهم إلى ما تحبّ وترضى ، إنَّه على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .
والحمد لله رب العالمين