أسباب المغفرة
الشيخ خالد بن عبدالله المصلح
الخطبة الأولى أما بعد..
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾([1]) .أيها الناس ((كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون))([2]) فنحن أيها الناس موطن الخطايا والسيئات ،أنا وأنت يا عبد الله،مستودع الذنوب والهفوات،غرتنا هذه الدنيا بزخرفها وما فيها من الشهوات والملذات وأعان على ذلك نفس بالسوء أمارة وشيطان رجيم على باب الصالحات قاعد يزهد وعلى باب المعاصي والسيئات قائم يرغب ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾([3]). أيها الناس هذه حال كثير منا: إقامة على الذنب والعصيان وهجر وترك للطاعة والإحسان ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾([4]) فإنا لله وإنا إليه راجعون،فلا ملجأ ولا ملاذ ولا مفر ولا وزر إلا عفو الله ورحمته ومغفرته وإحسانه: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾([5]) عباد الله إن ربكم عفو كريم جواد بر رحيم ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً﴾([6]) ضعيفاً في خلقه وبنيته ضعيفاً في رأيه وإرادته فمن رحمة الله بنا تخفيفه عنا:
فهو العفو فعفوه وسع الورى لولاه غار الأرض بالإنسان
﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً﴾([7]) فربنا البر الرؤوف الرحيم ـ أيها المؤمنون ـ واسع المغفرة والرحمة ﴿وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً ﴾([8]) قال جل شأنه : ﴿ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ﴾([9]) فالله جل في علاه لم يزل ذا عفو عن الذنب لم يزل يجود ويعفو منة وتكرماً طمّعكم في جوده وكرمه ومغفرته وإحسانه فقال سبحانه : ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾([10]). وقد جعل الله سبحانه وتعالى بعلمه وحكمته وفضله ورحمته لنيل عفوه وحصول مغفرته أسباباً وطرقاً كثيرة عديدة يسيرة متنوعة فاجتهدوا في الأخذ بأسباب العفو والمغفرة فإن الذنوب والمعاصي سلاسل وأغلال في عنق صاحبها لا يفكه منها إلا عفو الله ومغفرته فالله يدعوكم يا عباد الله ليغفر لكم من ذنوبكم وقد أمركم بحث الخطا وإسراع السير إليه سبحانه فقال: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾([11]). وفي الصحيحين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه ؟من يستغفرني فأغفر له؟))([12]) فسبحان من وسع حلمه وعفوه ورحمته أهل السماوات والأرض.
فيا أيها الناس :
كم ذا التأخر لا إقلاع يصحبه ولا عزيمة هذا العجز والكسل
فالبدار البدار يا عباد الله إلى الأخذ بأسباب العفو والغفران قبل فوات الأوان .ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم . أيها المؤمنون إن أعظم ما يحصل به العبد مغفرة الله وعفوه كثرة التوبة والاستغفار ولذلك أمر الله بها جميع المؤمنين فقال تعالى:﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾([13]) وقد وعد الله التائبين بالقبول فقال تعالى:﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ﴾([14]). فبادروا عباد الله إلى التوبة النصوح فإن التوبة تجُبُّ ما قبلها؛ فبالتوبة يمحو الله الخطايا ويعفو عن السيئات ألا وإن التوبة الصادقة يا عباد الله لا تكون إلا بالإقلاع عن المعصية والندم على مواقعة الخطيئة والعزم على عدم العودة إلى الرذيلة ورد المظالم إلى أهلها أو استحلالهم فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فإذا فعلت أيها المؤمن هذا فأبشر فإنك حبيب الله فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين فكونوا عباد الله ممن وصف الله:﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾([15]). فأكثروا عباد الله من التوبة والاستغفار قال الله تعالى في الحديث الإلهي
( يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم))([16]). أيها المؤمنون إن مما تكفر به الخطايا وتحصل به مغفرة السيئات الأعمال الصالحات قال الله تعالى : ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى﴾([17]). فالحسنات والصالحات تكفر الخطايا والسيئات ففي الصحيح جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ((فقال : يا رسول الله إني عالجت امرأة في أقصى المدينة وإني أصبت منها ما دون أن أمسها فأنا هذا فاقضِ فيّ ما شئت ، فقال له عمر رضي الله عنه : لقد سترك الله لو سترت نفسك. قال: فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فقام الرجل فانطلق فأرسل إليه النبي رجلاً وتلا عليه هذه الآية: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾([18])))([19]). فاتقوا الله عباد الله واستكثروا من الأعمال الصالحات من الوضوء والصلاة والصدقة والصوم والحج والجهاد وغير ذلك من أبواب الخير وسُبل البر .
أيها المؤمنون إن الله لا يتعاظم ذنباً أن يغفره بل من جوده وكرمه وإحسانه ورحمته أن يغفر للمستغفر الدقيق والجليل الصغير والكبير : ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾([20]).
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا .
الخطبة الثانية الحمد لله الذي تتلاشى وتضمحل في واسع عفوه ومغفرته الخطايا والذنوب أحمده على حلمه وواسع جوده وكرمه وأشهد ألا إله إلا الله الجواد الكريم البر الرحيم وأشهد أن محمداً...أما بعد فاتقوا الله عباد الله وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ، اعلموا أيها الناس أن مما تحصل به مغفرة الغفور الرحيم الإحسان إلى الخلق ففي صحيح البخاري ومسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئراً فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان قد بلغ مني. فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه أي بفمه حتى رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له قالوا: يا رسول الله إن لنا في البهائم أجراً ؟فقال صلى الله عليه وسلم: في كل كبد رطبة أجر))([21]). فانظر إلى هذا كيف غفر الله له بسبب سقيه الكلب : ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ وفي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم : (( لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين))([22]). فاجتهدوا عباد الله في الإحسان إلى الخلق ولا تحقرن من المعروف شيئاً :﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً﴾([23]). ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾([24]). وقال جل ذكره : ﴿إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً﴾([25]).
فهو الشكور فلن يضيِّع سعيهم لكن يضاعفه بلا حسبان
فلا تبخلن يا عبد الله على نفسك بالصالحات فـ ﴿إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ﴾([26]) ﴿وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾([27]).
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) الحشر: آية (18).
([2]) أخرجه: أحمد: (12576)؛ والترمذي (2423)؛ وابن ماجه (4251)؛ والدارمي (2727 ) من طريق علي بن مسعدة الباهلي عن قتادة عن أنس. وفيه علي بن مسعدة الباهلي قال فيه البخاري: فيه نظر ووثقه أبو داود وقال ابن معين: لا بأس به.
([3]) الأعراف: آية (16-17).
([4]) يوسف: آية (103).
([5]) الذاريات: آية(50).
([6]) النساء: آية ( 28).
([7]) النساء: آية (27).
([8]) غافر: آية ( 7).
([9]) النجم: آية (32).
([10]) الزمر: آية (53).
([11]) آل عمران: آية (133).
([12]) متفق عليه: البخاري (1077)، مسلم (1261).
([13]) سورة: النور: آية (31).
([14]) الشورى: آية (25).
([15]) آل عمران: آية (135).
([16]) أخرجه: مسلم: (2577) من طريق أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
([17]) طـه: آية (82).
([18]) هود: آية ( 114).
([19]) أخرجه: مسلم (2763)؛ والترمذي (3112)؛ وأبو داود (4468) من طريق إبراهيم عن علقمة والأسود عن عبدالله.
([20]) الزمر: آية ( 53).
([21]) متفق عليه: البخاري (2363)؛ ومسلم (2244) من طريق سمي عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة.
([22]) أخرجه: مسلم (1914) من طريق العمش عن أبي صالح عن أبي هريرة.
([23]) النساء: آية (147).
([24]) التوبة: آية (12).
([25]) الكهف: آية (30).
([26]) الشورى: آية (45).
([27]) الحجرات: آية (11).